يبدو أن زياد هبّ الريح، وزير داخلية السلطة، قرر توضيح مقاصد العملية العسكرية للأجهزة الأمنية في جنين بعيدا عن كل محاولات التضليل السابقة التي حاولت الترويج بأن المستهدفين هم مجموعة من المطلوبين الجنائيين الخارجين عن القانون. والأسباب التي تقف وراء هذا التصريح والذي قال فيه إن الهدف هو "ترتيب البيت الداخلي واستهداف من لا يلتزم بالبرنامج السياسي لمنظمة التحرير"، هو أولا التفاف الجماهير في المخيم حول المقاومين، فلا يعقل أن يقف مخيما بأكمله لمساندة "جنائيين خارجين عن القانون"، وهذا الأمر أحرج السلطة وماكينتها الإعلامية وناطقيها الرسميين ووجدوا أن مفعول الرسالة الإعلامية كان عكسيا وبالتالي لا بدّ من تغيير الاتجاه والأساس النظري لها.
والسبب الآخر، هو متابعة الأمريكيين والإسرائيليين للعملية بل والإشراف عليها. تفيد بعض روايات شهود العيان أن الآليات التي تضرر في الاشتباكات، يتم نقلها عبر حواجز الاحتلال لإصلاحها، وهو ما أكدته مصادر أمنية فلسطينية. وتستر السلطة خلف شعارات منطلقها أن المستهدفين "جنائيون" لا يقنع كثيرا الجهة المشرفة على العملية، لأنها ترى أن هذا التضليل ينطوي على خشية من طرف السلطة في توضيح موقفها السياسي من مجموعات المقاومة العاملة في الضفة الغربية. تبدو حسابات السلطة في هذا السياق؛ جماهيرية كونها سلطة تعتمد في شرعيتها على فصيل، من وجهة نظر الإسرائيليين والأمريكيين، ولهذا فإنهم يرون أن التصريح بالهدف الحقيقي للعملية هو توضيح لا لبس فيه أن "السلطة ضد مقاومة الاحتلال" وهذا هو هدف إنشاء السلطة ووجودها وشرط استمرار التعامل معها.
ولعلّ أحد الأسباب التي تقف وراء هذا الوضوح بالجهر ضد مشروع المقاومة، هو الآثار الكارثية لحرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" في قطاع غزة. فبينما بدأ الرأي العام العالمي والمجتمعات الغربية ترى أن ما يحدث هو مجازر تطهير عرقي مرتبطة بالفكر والمعتقدات التي يحملها أقطاب الحكومة الحالية لدى الاحتلال، تروج السلطة وماكينتها الإعلامية أن فصيلا فلسطينيا هو المسؤول عن هذه الجريمة، وتحاول الاستفادة من هذه الدعاية للتأكيد على سلامة وصحة نهجها السياسي والأمني. رغم أن الحقائق على الأرض تفيد بشكل قاطع أن الاحتلال قبل طوفان الأقصى كان يرتكب الجرائم والمجازر في الضفة الغربية وعلى شوارعها وحواجزها وداخل بلداتها ومخيماتها ومدنها، وتوسع الاستيطان وعدد المستوطنين وأصبح مشروع السلطة في مهب الريح بسبب هذه المتغيرات، لكن الفارق أن السلطة تريد أن يمرّ ذلك بلا ثمن حفاظا على امتيازات مسؤوليها الاقتصادية والأمنية.
وإمعانا في تجاهل الفلسطيني، لم تنف السلطة ولو معلومة واحدة عن إشراف جيش الاحتلال والأذرع الاستخباراتية الإسرائيلية والأمريكية على عملية جنين. بل إنها لم تكلف نفسها بالرد على معلومات نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية أن عملية اغتيال القيادي المطارد منذ سنوات لقوات الاحتلال يزيد جعايصة على يد أجهزتها الأمنية كان بالتنسيق المباشر مع الإسرائيليين. فإما أن السلطة ترى الفلسطينيين مجموعة من "العملاء" يقبلون بأن تغتال مطاردا لقوات الاحتلال بالتنسيق مع أذرع الاستخبارات الإسرائيلية، أو أنها تعتقد أن الفلسطيني إنسان غير فاعل سياسيا ومتلقيا سلبيا لا يتفاعل مع المعلومات التي يتعرض لها وهذه نظرية معظم الأنظمة القمعية في التعامل مع شعوبها.
وعندما يتحدث هب الريح عن "المشروع الوطني" حسب توصيفه، فإنه يتحدث عن مشروع ترفضه حتى القوانين الدولية التي تتيح مسألة مقاومة الاحتلال في الأراضي المحتلة، وبما أن المناطق التي ينشط فيها المقاومون هي مناطق محتلة وفق تعريف القانون الدولي، فإن هذه العملية الأمنية مخالفة لهذا القانون. أما في العرف والقانون الفلسطينيين فإن المقاومة حق مشروع، والخيانة هي التي تستدعي القيام بعملية أمنية ضد صاحبها، وهذا واضح في ميثاق منظمة التحرير التي يدّعي هب الريح أنه يلاحق المقاومين باسم مشروعها. وإذا كان القانون الدولي وكذلك الفلسطيني فيها نصوص واضحة عن شرعية مقاومة الاحتلال في الأراضي المحتلة، فإن القانون الوحيد الذي يرفض هذه الممارسة ويجرّمها في نصوصه هو القانون العسكري الإسرائيلي؛ قانون الاحتلال. وهذا التفنيد القانوني السياسي يجب أن يكون متاحا للفلسطينيين لكي يعرفوا أي قانون تستند إليه مصفحات السلطة التي تحاول الدخول لمخيم جنين منذ أكثر من أسبوعين.
الشق الآخر في تصريح هب الريح، ربط بين العملية العسكرية في جنين والمتغيرات في المنطقة. وهذا يمكن تفنيده بسهولة، فخطة الجنرال مايكل فينزل نشر عنها لأول مرة في شهر فبراير 2023، أي قبل أحداث طوفان الأقصى وقبل سقوط بشار الأسد وقبل الحرب على لبنان، فقد نقل موقع "أكسيوس" الأمريكي الشهير في التاريخ المذكور عن مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين أن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، طلب من رئيس السلطة محمود عباس تنفيذ خطة أمنية تهدف إلى القضاء على المقاومة جرى صياغتها بواسطة المنسق الأمني الأميركي الجنرال مايكل فينزل، والتي تحدد كيف يمكن لأجهزة أمن السلطة استعادة السيطرة على شمالي الضفة الغربية، وتشمل تدريب قوة فلسطينية خاصة سيتم نشرها في هذه المناطق لمواجهة مجموعات المقاومة.
إذن، فإن محاولة هب الريح تصوير نفسه على أنه "مفكر عميق" درس متغيرات المنطقة وبالتالي قرر هو وسلطته المضي في العملية العسكرية ضمن رؤية خاصة بهم تنفيه تقارير كثيرة تكشف بالتفصيل تفاصيل الخطة الأمريكية الإسرائيلية للقضاء على المقاومة في الضفة. لكن هذه المتغيرات التي يلمح لها هب الريح، هي التي تعتقد السلطة أنها تضمن لها ملاحقة المقاومة دون ردة فعل شعبية بسبب الظروف والأوضاع في قطاع غزة وكذلك في محيط فلسطين وانشغال الناس في قضايا كبرى، وبالتالي يمكن لهذه العملية أن تمرّ بدون ضجيج، وهو لم يتحقق حتى الآن.
لكن هذا الوضوح الذي اتسم به هب الريح، مفيد لصياغة موقف واضح من السلطة وممارساتها الأمنية بعيدا عن الدبلوماسية التي لم تحقق أهدافها في إقناع السلطة بالتراجع عن مشروعها الذي يختطف منظمة التحرير كرهينة بل وصل الحد فيه إلى شرعنة الأعمال الأمنية المنسجمة مع المصالح الأمنية الإسرائيلية في حماية المستوطنين والاستيطان باسم المنظمة التي تحمل فيها اسمها مصطلح "التحرير". يكشف هب الريح في تصريحاته هذه عودة السلطة الفلسطينية التي لا تطمح بأفق سياسي إلى وظيفتها الأمنية الأساسية كشركة حماية دولية وإسرائيلية وظيفتها محاربة المقاومة الفلسطينية باسم الشعب الفلسطيني، وكأن هذه السلطة أصبحت "عارية كما ولدتها أمها"، ومعروف من هي أم السلطة ومن أوجدها ويعزز وجودها، ويكفي الإشارة إلى أن توصيات المؤسسة الأمنية للاحتلال تفيد بضرورة الحفاظ على السلطة ومشروعها، وهو ما كشفت عنه وسائل إعلام غربية وإسرائيلية وعربية.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا